ألقى الرئيس بوش خطاباً تمحور حول موضوع رعاية الديمقراطية في الشرق الأوسط، وقد لقي الخطاب سخرية متوقعة من وسائل الإعلام الحكومية العربية· لكن ما يثير قلقاً أكبر من ذلك أن الخطاب أخفق في اجتذاب قدر كبير من الاهتمام في أميركا، إذ أن البعض نبذوه وصرفوا النظر عنه باعتباره مجرد خطاب سياسي، ونظر إليه الآخرون باعتباره جزءاً من المساعي الهادفة إلى تبرير الخسائر الأميركية العسكرية في العراق·
وليس هناك عدد كاف وكبير من الأميركيين الذين يرون الارتباط ما بين الديناميكات وقوى التغيير الداخلية في المجتمعات العربية وفي السياسة الخارجية العربية وطريقة سعي الأنظمة العربية الفاشستية إلى الحصول على الشرعية بتحميل القوى الشريرة الخارجية مسؤولية ما يحدث في الداخل من مشاكل وقلاقل· وفي الواقع أن أولئك الملتزمين باتباع ما يدعى بالمدرسة الواقعية في عالم السياسة، والذين رأوا دوماً أن الحديث عن الديمقراطية العربية إنما هو وهم وباطل، قد رأوا أن من المعقول إهمال ورمي المشروع برمته· لكن أولئك الواقعيين لم يبقوا على واقعيتهم في عالم ما بعد 11 سبتمبر: أي أنهم يرون الآن أن عملية إحلال الديمقراطية في العالم العربي ليست وهماً من الأوهام، بل يرون أنها ضرورة-أي أنها ضرورة لكل من الأميركيين والعرب على حد سواء·
إن أميركا اليوم تكتسب، كسالف عهدنا بها، عداوة الرأي العام العربي بسبب لامبالاتها الظاهرة وعدم اهتمامها بالمسائل التي لا تتعلق بإسرائيل والنفط، إضافة إلى أن لغة الاحتجاج باتت في معظم الأحيان إسلامية الطابع· ولأن الحكومات العربية تشعر بأنها أضعف مما كانت في أي وقت مضى، التجأ الكثير منها إلى النأي بنفسه عن الولايات المتحدة؛ إذ أن الحكومات العربية، طوال حقبة أوسلو وكامب ديفيد المعنية بصنع السلام، لم تكن على سبيل المثال مؤيدة بوجه عام للمساعي الأميركية بدرجة تلبي ما أرادته واشنطن(أو احتاجت إليه)·
ومن المفارقات المثيرة للسخرية أن المتعصبين الإسلاميين كمنظمة القاعدة مثلاً، مع اتساع الفجوة بين واشنطن والعواصم العربية بشأن المسائل الرئيسية في السياسة المتبعة، قد اكتسبوا أساساً وأرضية بتصوير أميركا كأهم دعامة لما قد يطلقون عليه اسم الأنظمة العربية الفاسدة المتضخمة والقمعية· وقد رد الزعماء العرب على ذلك باستخدام أجهزة الأمن الداخلي لمطاردة وتضييق الخناق على الإرهابيين (وترحيلهم أحياناً)، في حين أنهم سعوا إلى الحصول على الشرعية الشعبية بالتملق للجانب الأكثر ليناً في أوساط الإسلاميين كسباً لرضاهم وودهم· وبدلاً من مواجهة أيديولوجيا الإسلاميين، جرب الزعماء العرب أن يركبوا الموجة الإسلامية، تماماً كما ركبوا في العقود الماضية موجة مناهضة الاستعمار والقومية العربية·
إن من شأن استراتيجية نشر وتعزيز عملية إحلال الديمقراطية في العالم العربي أن تقوّض خرافة أن الاسلام هو الحل ، والتي يبثها الاسلاميون وينشرونها، وأن تمنح المواطن العربي العادي حصة في عملية تطوير بلده·غير أن نشر الديمقراطية في العالم العربي يشكل عملية صعبة تتطلب براعة وحذراً· فمن جهة، هناك المطالبة بالديمقراطية الفورية - أي تلك التي تأتي في ثوب الانتخابات الفورية المباشرة- لكنها مطالبة من شأنها أن تكون بعيدة عن الحكمة والتعقل ، بل إنها قد تبلغ حد الكارثة· ويأتي ذلك لأن معظم الأنظمة العربية تعتبر أن الانتخابات النزيهة والعلنية والشفافة تشكل تهديداً لها فيدفعها ذلك إلى الاستعانة بكل ما لديها من أدوات لكي تهزم خصومها· وإذا صارت الولايات المتحدة تلوي أذرع الأنظمة العربية إلى حد يكفي لفرض الانتخابات الحرة، فإن الإسلاميين سيكونون المنتصرين فيها على الأرجح، وهم القوة الشعبية الوحيدة التي تمتلك بنية تحتية تنظيمية جاهزة للعمل وقوامها المساجد· وسيكون من دواعي سرور الإسلاميين وسعادتهم أن يستخدموا الانتخابات الليبرالية لنشر غايات غير ليبرالية ( أي إقامة دول ثيوقراطية)·
ومن الناحية الأخرى، هناك استمرار الأوضاع كما هي وبقاؤها على حالها· وفي صفقة هي أشبه بالصفقة التي عقدها الدكتور فاوستس (الشخصية المسرحية الشهيرة، إذ باع فيها روحه للشيطان)، يقوم بعض الزعماء العرب، على نحو يثير السخرية والتشاؤم ويعبر أيضاً عن قصر نظرهم، بتأييد عملية الأسلمة لأنهم يعتقدون أنها تبقيهم في موقع متقدم بمقدار خطوة أمام الاسلاميين الحقيقيين· وباعتبار أن الزعماء العرب عاجزون عن ممارسة لعبة سياسة الأداء - أي الفوز بالشرعية بتقديم خدمات حقيقية إلى شعوبهم- فإنهم يميلون بدلاً من ذلك إلى اختيار سياسة الهوية ، وهي السياسة التي لن تجري بموجبها أبداً مساءلة ومحاسبة الزعماء العرب على ما مارسوه وفعلوه· إن هذا يزيد أمامهم في سهولة تحميل الأعداء الخارجيين - أي الولايات المتحدة وإسرائيل- المسؤولية عن مشاكلهم ومآزقهم في الداخل وفي الخارج أيضاً·
وما بين خيار الواقعية الذي يقضي بالاحجام عن فعل أي شيء، والخيار الرومانسي الحالم الذي يقضي بإجراء الانتخابات الآن على